في مديح الصمت



في لحظة ما، لم يعد ثمة مفر من نطقها. لأجل الحياة ذاتها كان لابد من نطقها. لكننا فعلنا كل ما بوسعنا لنؤخر هذه اللحظة. اخترعنا الأحاديث، وسمحنا للكلمات بأن تجر بعضها، وأن تفتح أبوابا بلا نهاية لمواضيع أخرى، وأخرى، بعيدا بعيدا عن تلك الكلمة العالقة في الحنجرة. ضحكنا حين بدت النكات هزلية، وحتى حين بدت سخيفة، كان لابد من الانجراف مع الموجة، بعيدا بعيدا عن الكلمة التي تكبر في فضاء الغرفة دون أن تقال. حاولنا ابعادها بملأ الكون من حولنا بكلمات بديلة، فأي كلمة أخرى كانت أكثر قبولا من هذه الكلمة التي نود التظاهر أنها قد ضاعت من معاجم اللغة. أشحنا النظر لئلا تلتقي الأعين، وتفادينا في اللحظة الأخيرة منعطفات حادة كان يمكن أن توقع بنا في قول ما لا يجب أن يقال. تعللنا بإمتلاء الأفواه لنستريح برهة، على غير العادة حين لا يكون هناك ما تخشى قوله، لكن اللقمة هذه المرة أخذت وقتها، وكانت المعدة لتقدم بيان شكر للكلمة، التي أصبحت الآن بحجم كل شيء، حتى صارت تضغط على الصدر ولا تدع مكانا للقمة إضافية. وبدا ممكنا أن نواصل تضييع الوقت، في عبث نقنع أنفسنا بأهميته، طالما يبدو مهما و وطالما يبقينا بعيدين عن انفجار ظننا أن بالوسع تفاديه. حتى أننا انتهينا إلى محادثات صامتة تكتفي بهز الرأس، بحذر، قاطعين كل فرصة أمام الحنجرة أن تقيء كلمتها المرّة. مدحنا الصبر والتسامح والتغاضي، وأشعلنا الشموع للإحتفال بذكرى جديدة لهذا الرابط الذي يجمع كل شيء ويبقيه في مكانه منظما ورائعا وجميلا، متظاهرين بعدم وجود كلمة بائسة تهدد بانهيار كل شيء لو انطلقت من عقالها. حامت الكلمة في الزوايا العمياء، وفي داخل آذاننا كانت تهمس أولا ثم تصرخ، لكننا صرفناها بعيدا، فلم يكن مقبولا أن تفسد كلمة واحدة كل شيء صنعناه معا كل هذا الوقت. احتلنا على الوقت بالأحاديث، بالتشاغل، بالصمت. بتمرير الكف فوق الفم، بتذريع الغرفة في جولات محمومة حفرت مساراتها، بالانصات المفرغ من نفسه لما يقوله شخص لا نعرفه في التلفاز، بتصفح الكتب التي لا ندرك ما هو مكتوب فيها، بتقليب الجرائد، بالنقاش حول ما يحدث في بلدان بعيدة، وما قد يحدث بعد سنوات من اليوم اذا استمر اليوم كما هو، بالنظر من النافذة كما لو كنا ننتظر أحدا، لكنها بقيت ملحّة. كما لو كانت كلمة حقيقية.

ثم توقف الوقت. هل توقف قبلها أم توقف بعدها؟ لسنا متأكدين، لكن أحدنا قد غفل لحظة، أرخى حنجرته فيما يشبه عطسة، حتى أنك لا تستطيع أن تكون متيقنا إن كان فعلها عامدا، وهكذا وجدت الكلمة طريقها إلى النور. وتوقف الوقت.

مرت برهة طويلة من الصمت، من الجمود، من اللازمن، ونحن نفكر فيما حدث، إن كان قد حدث فعلا، وإن كان لا يزال ممكنا التراجع عنه.

ثم تنفسنا الصعداء، فلم يعد ما يعيق النفس. قيلت الكلمة.

انهار كل شيء.

ولكن ربما أنه كان ينهار طوال الوقت.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة