النسيان
يبدو أنك نسيت. النسيان متقن، حتى أنك لا تعلم أنك نسيت. لا تفكر أنك نسيت. يغيب الأمر عن ذهنك تماما، حتى أنك لا تعرف ما هو الأمر. تذهب في طيات حياتك، يوما بعد يوم، ساعة بعد أخرى، منجزا أعمالك، مسترخيا، متوترا وغاضبا، فرحا وهزلا، ولا تشعر بأي خطأ، بأي نقص. لا تشعر أن ثمة فراغ تركته الفكرة المنسية. كل شيء يبدو مكتملا وسليما وصحيحا كما هو بالضبط، دون ذلك الأمر الذي نسيته، ولا تعلم حتى أنه منسي.
ثم ذات يوم، وأنت تتصفح الانترنت، يأتيك مقطع تلفزيوني قديم، يهز خلايا دماغك، ينفض الغبار، وتتذكر في الحال، ذلك الذي نسيته. وتشعر فورا بذلك الفراغ في روحك، ويظهر أمام عينيك المكان الذي كان لوجود الغائب أن يشغله، وتستوحش غيابه، وتحنّ لتلك الأيام البعيدة حين لم يكن غائبا ولا منسيا، حين كان هنا، معك يشاطرك هذه الحياة التي تتظاهر أنها كاملة رغم غيابه الفادح.
وتتساءل، هل هو فادح حقا غيابه، طالما استطعت نسيانه والتعايش بكمال مع نقصانه؟
ما الذي تريده هذه الذاكرة وما الذي تريد قوله؟ أتريد تذكيرك بما نسيته، وبما كان قبل غيابه؟ أم تريد الإشارة إلى قسوة قلبك وبرود مشاعرك، ما ساعدك على التمادي في النسيان.
وهل كان نسيانا؟ هذا الذي يكمن في زاوية مظلمة من روحك، منتظرا اشارة، تافهة بتفاهة مقطع تلفزيوني قديم، ليستيقظ ويوقظ أشباح ماضيك. هل كان تناسيا، لتستطيع أن تستمر في أخذ خطوة جديدة، وأخرى، وأخرى، في حياة لم يعد لذلك الغائب مكان فيها. هل كان طوق النجاة، منفوخا حول عنقك ليدفعك قدما نحو شاطئ الأمان، لكنك تصل ولا تستطيع التحرر منه، ذكرى الغرق الوشيك.
هل ثمة شيء كالنسيان حقا؟ أم أن الذاكرة ألغام مدفونة، وأنت إذ تمشي في الحياة، لا تأمن أن تطأ قدمك أحدها، فينفجر في ذهنك.
النسيان؟ ربما في يوم آخر، يصير شيئا حقيقيا.
تعليقات
إرسال تعليق