رحلة الإلهام .. ثلاث مكتبات في الشرقية
٢٨ أبريل ٢٠١٩
حين انطلقت في رحلة عصبة شرفات للقراءة بإتجاه القطيف في صباح ٢٧ أبريل ٢٠١٩ كنت أعرف أني على موعد مع الجمال والمتعة، وفرصة رائعة قد يكون أجمل ما فيها لقاء صديقات جميلات لا يتسنى لي اللقاء الفعلي معهم كل يوم. لقد تعارفنا منذ سنوات عبر مجموعة واتساب، واقتربنا بشكل ما، ولكن ستكون هي المرة الأولى التي ألتقي فيها ببعضهن. لاشيء من توقعاتي طال الحد الحقيقي لما عشته في هذه الرحلة، وفي طريق العودة، كنت أشعر بالمساحة الإضافية تتسع في غرف ذهني، ملأى بالأفكار والجدل لكل ما أثارته بداخلي هذه الرحلة.
كان البرنامج يعدنا بزيارة عدد من المكتبات، وتساءلت: هل سنملّ من هذا الكم من المكتبات طوال اليوم؟ أقول للصديقة نهى التي نظمت الرحلة، ما ذهابك لمكتبة قبل ليلة من الرحلة حين يكون أمامك يوم حافل بالمكتبات في اليوم التالي؟ هل يمل عاشق الكتب من المكتبات؟
حكاية قمر
كانت محطتنا الأولى مع مكتبة حكاية قمر. هي مكتبة للأطفال واليافعين. تطالعنا المكتبة بواجهتها الخارجية المزينة برسوم بالأبيض على خلفية ملونة لأطفال. أتصل بصديقتنا هاجر التاروتي ويجيء صوتها مرحبا مليئا بالبهجة ومنعشا. ندخل وتلفنا الدهشة من البداية. تستقبلنا صديقتنا الجميلة هاجر التاروتي بإبتسامة غامرة وترحيب حار، نشعر فورا بأننا في مكاننا الصحيح (ليس أننا أطفال، أو ربما بالذات لأننا لا نزال أطفال)، نقف عند مكتب الإستقبال، تصافحنا لوحات صانعي الدهشة التي تحمل صور كتّاب قصص الأطفال، والرسم على الجدار الذي يعكس التدرج العمري للقراءة، والقاعة/المعرض التي تنادينا بالرفوف والكتب. بعض منا انفلت بالفعل وبدأ بإكتشاف المكتبة. نستمع لهاجر تحكي لنا رحلتها مع تأسيس المكتبة، مشروعها الشخصي، شغفها الذي بدأ قبل سبع سنوات، رائدة في مجال غير مأهول، وسابحة ضد تيار بيروقراطية معتادة. ثم إذ تأكد لنا أن الحديث يجر الأحاديث وأننا لا نستطيع الاكتفاء من سماع هاجر، نجلس في زاوية من صالة عرض الكتب لتخبرنا عن العمل مع الأطفال في برنامج عضوية حكاية قمر، تحديات خلق عادة القراءة، والتعامل مع مربين قد لا تكون أهمية القراءة أو ”طريقتها“ واضحة لهم. تتحدث هاجر بمتعة ولا نكتفي من الأسئلة عن هذا المشروع الملهم، الذي يقف ويكبر في مواجهة عالم تعصف به المغريات بعيدا عن القراءة. تخبرنا هاجر عن تجربة النشر للطفل، والعمل على الكتاب. كلما تحدثت هاجر كانت تدفع نحونا ليس الكلمات والمعاني فقط، بل طاقة من الإلهام بما يسع الشغف فعله والأماكن التي يمكن أن يصل لها.
ترينا نماذج من كتب الطفل التي تقدمها في المكتبة. أعتقد أني بحاجة إلى العودة طفلة وقراءة هذه القصص، فهي تجارب جديدة بالنسبة لي. إن خبرتي في قصص الطفل تقف عند قصص الحكايات الخرافية، الليدي بيرد، والقصص السلوكية. لكن قصة عن صوت الهدوء؟ قصة عن حب الذات؟ قصة تعبيرية بلا كلمات؟ قصص غير تقليدية الرسم أو بالأبيض والأسود؟ تسبب قصص الأطفال الحديثة انفجار ذهني في بعض أجزاء دماغي. انتظرنا هاجر أن تروي لنا قصة، كما تفعل في جلسات تخصصها للأمهات. لكن الحديث أخذنا، ثم اختطفنا بقية الوقت لجولة في المكتبة المدهشة، التي تضم كتبا متنوعة الاصدار والطبعة، الموضوع واللغة، وأيضا موجهة لعدد من الفئات العمرية حتى فئة الناشئة أو اليافعين. لقد كانت أعظم بداية ليوم رائع. شكرا هاجر التاروتي على الإلهام والطاقة التي بثثتها.
بعد الغداء، نتوجه لزيارة مكتبة خاصة، لكنها مفتوحة للعموم للزيارة. تجربة قد تكون الأولى من نوعها بالنسبة لي. هي مكتبة الأستاذ علي معتوق الحرز التي منحها مسمى مكتبة جدل. حالما ندخل إلى الصالة نرى على اليسار بابا صغيرا يقود إلى مكتبة، لكنه يحثنا على الجلوس في الصالة للضيافة. لا نريد الضيافة نريد المكتبة. الصالة في الحقيقة هي متحف صغير للنوادر والمقتنيات القديمة. تلفزيونات صغيرة الحجم، أجهزة راديو قديمة، نياشين روسية، رسوم فرعونية، فانوس و فنر تراثية، علب عصير ومشروبات فانية، وأشياء أخرى. يأخذنا في جولة حول المتحف ويحدثنا عن جمع هذه المقتنيات. يذكرني بأورهان باموك وطائفة جامعي الأشياء، وأهمية المتاحف الإنسانية (لا تلك التي تعكس الأمة والدولة والمجتمع، بل التي تعكس حياة الإنسان الفرد).
بين الصور المعلقة على الجدار لشخصيات من زوار هذا المتحف والمكتبة هناك صورة لرجل كبير السن يرتدي الغترة البيضاء بغير ترتيب. سنسمع قصته خلال الجلسة الجدلية في المكتبة.
أخيرا نوفق في عبور الباب الصغير الأيسر نحو المكتبة. لوهلة ظننت أن هذه الغرفة الصغيرة التي تضج بالكتب في جدرانها الأربع من الأرض إلى السقف هي كل شيء. لكنه يأخذنا عبر باب آخر إلى قاعة أوسع، تمتلأ بالكتب بأكملها كأختها، ومفتوحة على صالة أصغر تزدحم برفوف الكتب بذات الطريقة. نعرف أن هناك المزيد منها في الطابق العلوي. نجلس إلى طاولة في منتصف القاعة ونستعد لحديث، نكتشف بعد قليل من الوقت أن لا طريقة للإستعداد له. يحدثنا الحرز قليلا عن طفولته ونشأته وكثيرا عن شغفه بموضوع الاسطورة والكتب التي تتناولها. يتشعب في الحديث كشبكة لا نهائية الفروع. في معرض حديثه يجيئنا بالاستشهادات الشعرية التي يحفظها ”سجل أنا عربي“ لمحمود درويش هي ترجمته الشخصية (تعبر عنه). وكلما تحدث عن مؤلف أو حدث ذكر لنا التواريخ المتعلقة به. يرى أن التقنية قد أفقدتنا مواهبنا ولهذا فهو يتكيء على التوثيق اليدوي والذاكرة. لقد جعل مهمته توثيق وأرشفة تاريخ بلدته، وهو واع أن كل ما يحدث اليوم، كل حدث، بطاقة زفاف، اعلان، هو جزء مما سيصبح تاريخا، وبالتالي هو يستحق الأرشفة. يتحدث دون تعب، ودون نفاذ لما عنده من معرفة، كأن الكتب الألفية المصطفة على الأرفف قد فتحت نفسها وأنطلقت عبر لسانه وعقله بالذات. مثل هاجر، كان يتحدث مدفوعا بطاقة من الشغف الذي لا ينفذ. لم يحدثنا كثيرا عن مكتبته. ليس عن الشكل، بقدر ما كان مندفعا للحديث عن المواضيع التي تستوقفه وتثيره في القراءة، لاسيما الاسطورة. أظنه أصبح يعتبر الحديث عن المكتبة، عدد الكتب أو جمعها أمرا مفروغا منها. ومن القصص التي حدثنا بها، يمكن استشفاف أن هذا القاريء الإستثنائي - يقضي ثمان ساعات في القراءة- يتجاوز كونه يمارس القراءة بالطريقة التقليدية إلى كونه ينشرها وينشر معانيها من خلال تفاعله مع الآخرين في مجتمعه، سعيه لمساعدتهم، وأيضا مشاركته في إثارة النقاش والجدل في المجالس. إنه ملهم بطريقته الخاصة، فليس هذا إلهاما لجمع الكتب وقراءتها، بل للذهاب للميل الإضافي، أخذ القراءة إلى الناس في شكل موقف ورأي ومشاركة. ورغم ما يبدو عند الكاتب وما حدثنا عنه من تمرد، وسعة في الأفق ترفض الاستسلام للسائد، لكني افترض أن احترام الاختلاف وقبول التعددية يبدو سمته. وربما تكون هذه الكثير من الانطباعات لتكوينها في جلسة قصيرة، لكن هذا ما بدا من آلاف الجهات والمسارات التي أخذنا بها عبر أحاديثه المتشعبة والمتداخلة التي كان علينا قطعها والمغادرة دون الوصول إلى نهاية لها. لقد كنا أمام ذهن تتزاحم فيه الأفكار وتتدفق، بشغف المشاركة مع الآخرين. إنه، كما أخبرنا، شخص نشأ في ظروف ليست شديدة الرخاء بما يكفي لتشجيع تكوين مكتبة، لكنه امتلك من الشغف ما جعله يصل إلى تأسيس جدل. تضم مكتبته الكتب الدينية والفلسفية والأدبية وغيرها وقريبا من محل جلوسه في صدر طاولة الحوار يشير إلي ركن كتبه المفضلة كتب الاسطورة. لقد كانت المكتبة الضخمة أمامنا هي نتاج جهد فردي شغوف، لكنها وكما يقول ستكون ”وقفا“ لفائدة الناس.
هل لا يزال هناك أفضل؟ هل ثمة مجال لمنافسة مكتبات هاجر والحرز؟ كان لنا موعد أخير مع مركز إثراء. المكان مصمم بهندسة غريبة، وتعسر علينا إيجاد المدخل في البداية، ثم تعسر علينا الخروج أيضا. ذكرني بقلعة كافكا. ندخل المكان الأبيض شديد الإبهار، تبدو مكتبة مرتبة وجميلة، هناك اعتماد كبير على التقنية في فهرسة الكتب والبحث عنها والعثور عليها بسهولة عبر شاشات كبيرة وتعمل باللمس. بعكس مكتبة الحرز المكتظة، تتوزع الارفف متباعدة في مساحات شاسعة وعبر جدار أبيض ”كصيدلية“ بحسب وصف أحد المعلقين على تويتر. تم ترتيب الكتب التي يقل عددها عن المساحة بطريقة استعراضية إلى حد ما. نذهب في جولة سريعة حول المكتبة، وأشعر بأن هذا المكان الذي لا يخلو من مساحات للجلوس والقراءة والدراسة، بما في ذلك مقهى، هو مكان جميل لقضاء وقت هادىء مخصص للقراءة. تحتاج الكتب في هذه المكتبة إلى مزيد من التنوع (بدا أن إصدارات كلمة الإماراتية والكتب السعودية و الرائجة هي المسيطرة على الجانب العربي من المكتبة). مركز إثراء ذاته بما يقدمه من أنشطة شاهدتها عبر موقعه ولم يتسن لي الوقت لحضورها يبدو مكانا مناسبا لقضاء يوم مبهج مع العائلة.
تنتهي زيارتنا بالجلوس على بعض الأرائك في زاوية من المكتبة لمناقشة كتاب الشهر بين عضوات المجموعة. هذه المكتبة تسمح لك برفع الصوت قليلا والنقاش، وهذه المساحات للحوار والتفاعل هي بالتأكيد ميزة إضافية لتأكيد دور المكتبة التفاعلي.
حين سألت صديقاتي في نهاية اليوم ونحن في طريق العودة للبحرين، عن أجمل فقرة في رحلتنا، شعرت بتقدير للجانب الملهم لكل مكتبة ومكتباتي(ة) زرتها اليوم، وطاقة الشغف التي يمدّونها، والجمال الذي يرعونه. وبخاصة لأولئك الذين يضعون جهداً فردياً وبموارد شخصية لرعاية مشاريع ثقافية في المجتمع، لهم التقدير الأعلى. لكني أشعر بإمتنان خاص لهاجر التاروتي، لأنها امرأة في مجتمع رجالي، وبالتالي فقد كان عليها أن تواجه تحديات تخصها وتفوق تحديات الرجل، ولأنها اختارت مشروعا غير تقليدي (على الأقل في وقت نشأته) ولا زالت تدفعه بإتجاهات غير تقليدية تستحق الإعجاب والتقدير.
أفكار من هنا وهناك
في مكتبة هاجر (هكذا أصبح اسمها) تحدثت الصديقات عن تحدي القراءة الذي يضع المدارس بجميع مراحلها المختلفة في منافسة لاختيار ممثل للبلد في السباق الإقليمي. تحدثنا عن عدم عدالة السباق الذي يُخضع الفئات المتفاوتة في منافسة واحدة مشتركة فيجعل الأمر أصعب على الأقل حظا من الصغار في المنافسة مع الكبار. صديقة من الحاضرات تسأل عما يجدر فعله مع طفلتها التي يبدو أن تحدي القراءة يحطمها في حين تشغف بالقراءة. ما لم نقله وكنت أفكر إن كان من المناسب إخباره لطفلة صغيرة: هو أن الحياة غير عادلة. بطبيعتها. وأن هذا السباق ليس سوى نموذج، لنماذج عديدة وستتكرر خلال الحياة لمواقف تثبت الحياة فيها عدم عدالتها. على الإنسان في مرحلة ما أن يهضم ويتقبل هذه الحقيقة، ليتمكن من مواصلة الحياة دون أن تنهار ثقته بذاته. ستبذل من الجهد كل ما تستطيع، وتفشل. الفشل أيضا هو جزء من الحياة، حتى عندما يكون غير متوقعا بمعايير العدالة. لأن هذه هي الحياة. الدنيا. المحدودة في عدالتها. غير العادلة.
في مكتبة جدل، نستمع لقصة رجل مسن، يحضر المجالس الفكرية بغير اعتناء كبير بتفخيم هندامه، يتجاهله مدير النقاش ويحرمه من فرصة التعليق. وحين تتاح الفرصة أخيرا له للحديث، وبدون أن يكون من الجمهور من يتوقع أن يقول شيئا مثيرا للإهتمام، يذهلهم بسعة فكره وحسن تعبيره. يذهلهم لدرجة اهتمامهم بدعوته شخصيا للقادم من مجالسهم الفكرية. هذه أيضا قصة لا تكف عن تكرار نفسها، أي الفشل في تقدير الآخرين دون الحكم عليهم من خلال مظهرهم الخارجي. حتى في المجالس الفكرية، وبحضور المثقفين، يقع الناس في هذا الخطأ التافه: الحكم على إنسان من مظهره، بعدم قدرته على قول كلمة مثيرة للإهتمام.